مبادرات تونسية متعثرة- هل يعيق الإقصاء وحدة المعارضة واستعادة الديمقراطية؟

تشهد الساحة السياسية التونسية حراكًا ملحوظًا، يتمثل في إطلاق سلسلة من "المبادرات" السياسية بين الحين والآخر. تتزين هذه المبادرات بشعار براق يتمثل في "توحيد القوى الوطنية لاستعادة الديمقراطية"، وهي الديمقراطية التي وُوريت الثرى في الخامس والعشرين من يوليو/تموز 2021، في ما يُعرف بـ"انقلاب" الرئيس قيس سعيد على مسار الانتقال الديمقراطي، بكل ما يضمه من منظومة حزبية وسياسية وبرلمانية وإعلامية ودستورية.
كانت "جبهة الخلاص الوطني" في طليعة المبادرين، حيث دعت منذ اللحظات الأولى لـ"انقلاب 25 يوليو/ تموز" إلى ضرورة تضافر جهود المعارضة على أساس "المشتركات الوطنية"، وذلك بهدف استئناف المسار الديمقراطي، واستعادة الحريات المسلوبة، وإرساء دعائم "الدولة الوطنية الجديدة" التي تحتفي بقيم المواطنة والمصالح القومية. كما شددت الجبهة على أهمية إعادة هيكلة أركان الدولة، التي تضررت جراء مسار الاستبداد الذي استمر لعقود طويلة، وخاصة خلال السنوات الخمس الأخيرة، بما يعزز من صلابتها وقدرتها على مواجهة التحديات، بالاستناد إلى المنظومة الديمقراطية التي انبثقت من رحم الثورة التونسية، ومخرجاتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
إلا أن مبادرة الجبهة، للأسف، لم تلقَ صدىً واسعًا، إذ بقيت بمثابة صرخة في وادٍ عميق. فمعظم المكونات الحزبية والسياسية سلكت طريقها الخاص في بحر الانقلاب، متمنية الحصول على نصيب من "الكعكة" الجديدة. بل إن بعضها شجع الرئيس التونسي، سرًا وعلنًا، على تنفيذ الانقلاب، ثم لاحقًا على تصفية خصمها اللدود، أي "حركة النهضة"، التي تُعد المكون الرئيسي لجبهة الخلاص الوطني، والتي تضم قوى وشخصيات وفعاليات يسارية ومستقلة.
لم تستسلم الجبهة أمام هذا الواقع المرير، وواصلت سعيها الدؤوب لتوحيد القوى السياسية لمناهضة الانقلاب. وكررت دعوتها مرة أخرى، فور انطلاق عمليات الاعتقال والمحاكمات السياسية، محذرة من أن ما يجري هو بمثابة تمشيط "للشجرة التي تغطي الغابة"، وأن بقية القوى السياسية معنية أيضًا بعملية الإقصاء والاستهداف. لكن الجواب جاء سريعًا وحاسمًا: "لا يمكن أن نجلس مع حركة النهضة، المسؤولة الأولى عن "العشرية السوداء"، كما يزعمون..".
وهكذا رُفضت المبادرة، وسط حالة من اللهفة المحمومة على السلطة والمكاسب السياسية لدى أولئك الرافضين.
مبادرات سياسية
لكن رياح الانقلاب العاتية، التي هبّت لتجتاح التجربة الديمقراطية برمتها، دون أي تمييز أو محاباة، وما تبع ذلك من "إجهاز" السلطة على جميع المكتسبات، في ظل حالة من "التدمير الشامل" لأسس الدولة الديمقراطية، والانتكاسة المدوية في مجال الحريات والحقوق، والمحاكمات التي كشفت وثائقها عن خلوها من اتهامات حقيقية للمعتقلين من مختلف الأطياف السياسية، على حد قول هيئة الدفاع عنهم، كل ذلك دفع بالساحة السياسية إلى التحرك من جديد، بعد أن أدركت أطرافها أن ما يجري ليس "تصحيحًا" أو "إعادة بناء" أو "تحريرًا وطنيًا"، كما تدعي "منظومة الانقلاب". لذلك كان لا بد من رد فعل، تجسد في مبادرتين أساسيتين:
المبادرة الأولى، تزعمها "الحزب الدستوري الحر"، الوريث الشرعي لحزب الرئيس الراحل المخلوع، بن علي، الذي أطلق "مبادرة سياسية جامعة للمؤمنين بالدولة المدنية"، كما سماها، ونظم من أجلها ندوة سياسية في (5 مايو/ أيار الماضي)، شاركت فيها شخصيات يسارية وقومية وأكاديمية، وحشد من المثقفين الذين كانوا جزءًا من السلطة قبل ثورة 14 يناير/ كانون الثاني 2011، وذلك لمناقشة تفاصيل هذه المبادرة، والتوصل إلى "صيغة تجميعية" للقوى السياسية المتوافقة مع حزب عبير موسي، وخلفيتها وتاريخها، وسجل مواقفها خلال السنوات السبع الماضية، عندما بدأت عملية تشويه الانتقال الديمقراطي، وشيطنة الأحزاب والبرلمان الذي أنتجته منظومة ما بعد الثورة التونسية، على الرغم من أنها صعدت إلى المشهد السياسي والبرلماني بفضل هذه المنظومة وتشريعاتها.
غير أن هذه الندوة لم تسفر عن أي وثيقة أو بيان يعكس إجماع الحضور حول المبادرة، أو حتى اعتبارها نواة لمشروع تجميع جديد. بل إن عددًا من الشخصيات الأكاديمية والسياسية المعروفة أكدت في تصريحات إعلامية لافتة أنها حضرت للاستماع إلى المبادرة فقط، وليست طرفًا فيها أو داعمة لها، وهو ما أعلنه كل من وزير التعليم السابق، ناجي جلول، والدكتور في علم الاجتماع، المولدي القسومي، وأستاذ القانون الدستوري في الجامعة التونسية، أمين محفوظ، أحد أعضاء اللجنة المصغرة التي كتبت الدستور البديل لنص 2014، قبل أن يلقي به الرئيس قيس سعيد في سلة المهملات لاحقًا.
أما المبادرة الثانية، فقد أعلنتها كل من "رابطة حقوق الإنسان" و"منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية"، من خلال الدعوة إلى "مؤتمر وطني للحقوق والحريات من أجل دولة ديمقراطية". وقد انعقد المؤتمر بالفعل، بحضور أطياف أيديولوجية متنوعة، تمثل النسخة المعدلة من تلك الأطراف التي رفضت مبادرة "جبهة الخلاص" منذ الأيام الأولى للانقلاب.
وعلى الرغم من صدور بيان ختامي عن المؤتمر، فإن مخرجات المبادرة لم تكن سوى إعادة إنتاج لمكونات سياسية يسارية، مدعومة من المنظمة النقابية "الاتحاد العام التونسي للشغل"، التي اختبأت خلف المبادرة خوفًا من إثارة غضب السلطة، الغاضبة منها أصلًا، نظرًا لأدوارها ومواقفها، وما يتردد عن ملفات الفساد المتورط فيها قيادات وفروع وشخصيات نقابية معروفة، كما تروج أطراف قريبة من السلطة.
الجدير بالذكر هنا أن جزءًا من المشاركين في هذا المؤتمر لا يخفون أن اتحاد الشغل كان بمثابة "غرفة العمليات" لهذه المبادرة، فقد انطلقت من أروقته، وحظيت بدعم كامل من الاتحاد، الذي بدا وكأنه "يتموضع" في المشهد القادم، بعد عملية التهميش التي تعرض لها من سلطة الرئيس قيس سعيد، والتي جعلته يخشى أي تحرك يمكن أن يفتح عليه أبواب القضاء على مصراعيها.
ويمكن القول إن النتيجة العملية لهاتين المبادرتين هي الفشل الذريع في تشكيل كيان سياسي معارض للسلطة وقادر، بالتالي، على "إنتاج" بديل للحكم الراهن، بالوسائل القانونية والدستورية، وبالأساليب النضالية المتعارف عليها في جميع الديمقراطيات، العريقة منها والناشئة..
وهنا يحق لنا أن نتساءل: لماذا فشلت كل هذه المكونات في التوصل إلى صيغة تجميعية موحدة لمن يفترض أنهم جميعًا ضد منظومة الحكم الحالية؟
أربعة أسباب رئيسية
يمكن تلخيص هذه الأسباب في العناصر التالية:
1- إن أصحاب المبادرتين، أي "الحزب الدستوري الحر" و"رابطة حقوق الإنسان"، ومن شاركهم الاجتماعات التي عقدت، كانوا في طليعة المصفقين لانقلاب 25 يوليو/ تموز 2021، بل شكلوا في البداية حزامه الداعم لكل مقولاته ومعجمه السياسي والقانوني، ولعبوا دور ما يشبه "الناطقين الرسميين" باسمه في الداخل والخارج.
وبالتالي، لم يكن من المنطقي المراهنة على أطراف تقول الشيء ونقيضه، وتتلون بمواقف حادة، لا ضابط ولا أفق سياسيًا ديمقراطيًا لها.. لقد صمت هؤلاء جميعًا على عملية تفتيت التجربة الديمقراطية التونسية الناشئة، فكيف يمكن أن يتحولوا بين ليلة وضحاها إلى دعاة للديمقراطية والحريات؟!.. كما يعلق مراقبون.
2- إن هؤلاء كانوا "عود الكبريت" في عملية شيطنة الانتقال الديمقراطي، بل لعبوا أدوارًا خطيرة في إفشال الأفق الثوري التونسي الجديد. وقد كتب الأمين العام السابق للاتحاد العام التونسي للشغل، حسين العباسي -الذي كان لاعبًا أساسيًا في تلك العشرية-، ليشير بوضوح في كتابه "تونس والفرص المهدورة"، الصادر قبل فترة، إلى أن المنظمة النقابية و"الطيف التقدمي" في البلاد لعبا دورًا هامًا في تعطيل "الترويكا الحاكمة" (بين 2012 و2014)، ومنعها من تحقيق أي منجز اجتماعي واقتصادي، قائلًا في هذا السياق: "لقد عطلنا أعمالهم ومساعيهم، وتحركنا في كل الاتجاهات، لمنعهم من تحقيق أي شيء"، كما جاء في نص الكتاب، وأعاده في تصريحات إذاعية عديدة.
كان الاتحاد العام التونسي للشغل وقتها حاضنة لكامل الطيف المعارض لما يسمى "الإسلام السياسي"، ممثلًا في حركة النهضة، وكان العباسي الأمين العام للمنظمة، وهو الذي قاد سيناريو تغيير الحكومة سنة 2014، وإفشال التجربة برمتها، إلى حد أن البعض اعتبر "جائزة نوبل" التي حصل عليها الاتحاد العام التونسي للشغل مع منظمة رجال الأعمال ورابطة حقوق الإنسان، والتي عرفت بالثالوث "الراعي للحوار الوطني"، بمثابة الجزاء على توقيع نهاية الانتقال الديمقراطي، وبداية العودة التدريجية للمنظومة القديمة (ما قبل الثورة)، التي ستجد في الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، ثم قيس سعيد، الترجمة العملية لاستئناف "حالة الاستبداد" التي عادت أدراجها منذ يوليو/ تموز 2021.
فكيف يكون "طابور الخراب" بالأمس، كما يسميه البعض، مهندس البناء اليوم؟ وكيف يتسنى لمن عطل الديمقراطية أن يتحول إلى لاعب أساسي فيها، لا سيما أنه لم يقدم مراجعات عن "أفعاله" التي ارتكبها خلال الفترة الماضية؟ وهل يمكن استئناف الديمقراطية بأحزاب وشخصيات "لا ديمقراطية"، كما يتساءل قسم واسع من السياسيين والإعلاميين والمثقفين اليوم؟
3- إن هذا الطيف من الأحزاب والمنظمات والنقابات، التي ترفض تشريك بعض الأطراف السياسية في "مبادرات إنقاذ وطني"، لم تصدر حتى الآن أي مراجعة لمواقفها المتقلبة، ولأدوارها التي يصفها بعض النقاد بـ"المشبوهة"، ولم تعلن عن أخطائها التي ارتكبتها في حق التجربة الديمقراطية.
وبالتالي فهي ليست ــ في تقدير كثيرين ــ مؤهلة لمطالبة غيرها بالمراجعات، حتى تنزل من أعلى الشجرة، وتبرهن عن رغبتها في وحدة وطنية حقيقية، وليست زائفة.
4- إن أي محاولة إقصاء لأي طرف أو فصيل سياسي، في إطار مبادرات "الإنقاذ الوطني" التي يتم التسويق لها، تفقد هذه المبادرات وطنيتها، وتجعلها مجرد "هراء" سياسي مخاتل، سيزيد في صب الزيت على حالة الانقسام المجتمعي والسياسي السائدة حاليًا منذ أكثر من 5 سنوات، بصورة أضرت بالتجربة التونسية، بل بالبلاد برمتها، وبمستقبل الأجيال القادمة.
هكذا باءت المبادرتان بالفشل، وأكدتا أن كل مسعى يتخذ هذا المسلك المعوج سبيلًا للخروج من الأزمة السياسية الراهنة، وتوحيد المعارضة على قاعدة الإقصاء، ستكون نتيجته ومصيره إلى غياهب التاريخ.
فتاريخ الشعوب لا تكتبه الضغائن والتصفيات السياسية، وسجلات الماضي المظلم، كما تبين تجارب عديدة قريبة من محيطنا الجيوسياسي، على غرار جنوب أفريقيا ورواندا، وإسبانيا ما بعد فرانكو، وغيرها من التجارب في أنحاء كثيرة من العالم.
"فيتو" تونسي خاص
الأمر اللافت في هذا السياق هو أن نظام الحكم الحالي يستفيد بشكل كبير من حالة التصدع والتشرذم السياسي التي تعيشها المعارضة. ورغم أنه لم يتدخل لخلق "معارضة صورية" كما فعل سلفه، الرئيس الراحل بن علي، وعمل على استبعاد هؤلاء الذين هللوا طويلًا لانقلابه، فإن المعارضة لم تتخلص من "عباءة" الرؤية القديمة، التي تقسم المشهد السياسي بعقلية طائفية، ومنطق الحروب الأهلية، وثقافة التخوين، وتضع شروطًا غير منطقية وغير سياسية لكل عملية توحيد ممكنة، مما يجعلها تساهم بشكل أو بآخر في تثبيت أركان "الانقلاب"، الذي تتفاقم أزماته الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية، فضلًا عن المشكلات الهيكلية التي تعتري فلسفة النظام الجديد وبنيته القانونية والتشريعية.
ومع حلول فصل الصيف الوشيك، فمن المتوقع، وفقًا للأعراف السياسية التونسية السائدة، تأجيل المعركة السياسية و"موضة" المبادرات السياسية.
لا يوجد "منقذ منتظر" في المشهد التونسي، فعملية تحطيم الزعامات السياسية على مدى الاثني عشر عامًا الماضية قد أتت أكلها اليوم، وفقدت أحزاب وشخصيات اعتبارية مصداقيتها لسبب أو لآخر، مما يجعل "مبادرات التوحيد" ومساعي الحوار الوطني القائمة على الإقصاء والتهميش والتصفية السياسية، كمن يحرث في البحر.
ويخشى الكثير من المراقبين أن يكون النظام التونسي، الذي كان سببًا في هذه الأزمة وتداعياتها، هو الملاذ الأخير للمعارضة للخروج من المأزق السياسي، كما بدأ البعض يدعو إلى ذلك بوضوح لا لبس فيه، وتلك لعمري من مفارقات المشهد السياسي التونسي المعقد، إذ كلما تباعدت المعارضة وتشرذمت، واستمرت في حساباتها الخاطئة، اقتربت أكثر فأكثر من الحل الذي لا يستبعد الحكم، بغض النظر عمن يترأسه.
إنه "فيتو" تونسي خاص: لا حل للأزمة السياسية واستئناف الديمقراطية من خارج الدولة والفاعلين الرئيسيين العقلانيين فيها.. فهل لدى المعارضة رأي آخر؟!